أدّى العدوان الصهيوني على لبنان, إلى إدخال البلاد في حالة مشابهة للمناطق المنكوبة بالكوارث, مسبّباً انزياحاً هائلاً للسكان ومعه انزياح في الاستهلاك إلى جانب توقف دورة العمل والإنتاج. لكن لا أحد يقارب هذه المسألة رغم أهميتها, إذ إن الأولويات تتركّز الآن على التعامل مع أزمة النزوح من زاوية تأمين السكن ومقوّمات الحياة على أبواب الشتاء. في هذا الإطار, حصل لبنان من الدول المانحة المشاركة في مؤتمر باريس على مليار دولار مقيّدة بأصفاد وضعها الواهب. هذا باختصار ما يعبّر عنه رئيس لجنة الطوارئ الحكومية الوزير ناصر ياسين.
■ هل ما زلنا في مرحلة استيعاب الصدمة, أم أن الحكومة بدأت تتعامل مع هذا الانزياح الهائل للسكان بأنه حالة طارئة تشبه ما يحصل في الكوارث الطبيعية الكبرى؟
أدّت الحرب الصهيونية على لبنان إلى انزياح سكاني. خرج نحو نصف مليون شخص من البلاد, ونزح مليون و200 ألف من أماكن سكنهم الأصلية وأصبحوا بلا عمل. الضاحية مثلاً, كانت تعتمد على الاقتصاد غير المنظّم والأعمال الصغيرة, إلا أنه بعد ابتعاد العاملين جغرافياً عن محالهم التجارية, توقفت هذه الأعمال مثل الدكاكين والمستودعات الصغيرة, والورش الصناعية الصغيرة. جزء كبير من النازحين يعتمد على الأعمال الاقتصادية الصغيرة غير المنظّمة. مثلاً, اقتصاد الاستهلاك في الضاحية كان كبيراً, ولا يستهان بالأثر الاقتصادي للمحالّ الصغيرة الكثيرة. أيضاً الضاحية هي منطقة سكنية تخدم الكثير من المناطق, فهناك 600 موظف في الجامعة الأميركية هم من سكان الضاحية الذين صاروا نازحين اليوم.
من دون شك, هناك تغيّر في البنية الاقتصادية وخسارة لمصادر الدخل. يجب البحث في إعادة تصميم الأعمال الاقتصادية. لكن, حتى الآن لم تنطلق هذه الورشة, فنحن في الأسابيع الأولى من الحرب, ولا نزال نعمل على امتصاص الصدمات, بينما يصرف الناس من مدخراتهم. نتعاون حالياً مع لجنة الاقتصاد النيابية والمجلس الاقتصادي الاجتماعي بغية وضع تصوّر لـ"اقتصاد الكارثة". إذ تتجلّى النقطة الأهم بامتصاص اليد العاملة النازحة في أماكن وجودها. هناك قسم من المؤسّسات قادرة على نقل أعمالها إلى ما يمكن تسميته المناطق الآمنة, إلا أنّ هناك جزءاً آخر تضرّر بسبب القصف.
الأسئلة حول الشكل الجديد للاقتصاد كثيرة وكبيرة, إنما يبعدنا عنها التركيز على الشقّ الإنساني. المشكلة أن لا أحد يقارب الهمّ الاقتصادي. هناك تقاعس عن الانخراط في موضوع الحرب من مجموعات وفئات نخبوية في لبنان. وهنا نرى الفرق كبيراً بين ما حصل إثر انفجار المرفأ من تحرّك للجمعيات وهيئات المجتمع المدني, وبين التقاعس الذي نشهده اليوم.
يمكن تشبيه هذا العدوان وتداعياته بالكارثة الطبيعية كالزلزال الذي يعيد خلط المناطق والخدمات والنشاط الاقتصادي. إذا لم نعالج تبعات الحرب بهذه الطريقة, فكلّ ما نقوم به سيكون تأمين كرتونة الإعاشة.
■ قرّرت الدول المانحة في مؤتمر باريس أن تخصّص للبنان مساعدات بقيمة مليار دولار. وفي ورقة لبنان التي عرضت في المؤتمر, كان هناك توزيع لما هو مطلوب بين استجابة إنسانية وطارئة بقيمة 490.5 مليون دولار, و672.1 مليون دولار لدعم القطاع العام, فضلاً عن 200 مليون دولار للجيش. فهل سيتوزّع المليار دولار كما طلبتم؟
الأموال التي ستصرف من مؤتمر باريس لدعم لبنان هي هبات وليست قروضاً. كان لدينا طلب بالتمويل المباشر للاستجابة الإنسانية المعروف بـ"flash appeal" بقيمة 425 مليون دولار, أضفنا إليها كل ما يتعلق بحاجات الشتاء, وحاجات للدفاع المدني والإغاثة, ثم أضفنا 672 مليون دولار إلى الوزارات لإبقاء خدماتها عاملة. إنما التفاصيل المتعلقة بهذه المبالغ لم تتّضح بعد, بل تجري مناقشتها مع المنظمات الدولية. فما بعد مؤتمر باريس يفترض أن يتركّز النقاش على مسائل أساسية:
أولاً, طريقة توزيع الأموال على القطاعات. حتى الآن, هذه النقطة غير واضحة. فقد عبّر عدد من المانحين عن أنّهم يريدون مساعدة قطاعات معينة. مثلاً, قالت"usaid" إنها تريد دعم برنامج التغذية العالمي لتأمين الطعام. وهناك آخرون قالوا إنّهم سيتبرعون بمبلغ معيّن, لكن لم يحدد الهدف من هذا التبرّع ولا آليات توزيعه. وهذا ما بوشر بنقاشه مع المنظمات الدولية. من هنا سننطلق. أول من أمس, اجتمعت مع الوزارات المعنية, وطلبت منها العودة إلى تقاريرها المرفوعة إلى المؤتمر لتحضير ما هو مطلوب ومتابعته وتوحيد العناوين لناحية جدولة الدفعات ومنع تكرار عناوين الصرف وخلافه.
ثانياً, طريقة إدارة الأموال. ستصل معظم الأموال إلى المنظمات الدولية, لا إلى خزينة الدولة. لن تسلّم الأموال بشكل مباشر إلى أيّ وزارة, بل ستُعطى من المانح إلى منظمات دولية معنية, مثل اليونيسف واليونيسكو وغيرها من وكلاء هذه الدول الذين سينفذون عملية الإنفاق والإشراف عليها بالتنسيق معنا. لذا, بدأنا بالتنسيق معها تمهيداً لعقد اجتماع في تشرين الثاني المقبل مع مندوبي المانحين هنا في لبنان. سنقترح أن تكون إدارة الأموال بواسطة آلية "المرفق التمويلي" التي سبق أن اعتمدت في 2006 بعد إجراء تعديلات عليه, علماً بأن هناك تجربة مشابهة جرت بعد انفجار المرفأ عام 2020. وهو أقرب إلى صندوق توضع فيه الأموال, ثمّ تصرف تبعاً للحاجات التي تحدّد بعد التنسيق بين المنظمات الدولية والدولة اللبنانية, وفي حال التعارض على أولوية الصرف, نتفاوض على الأولويات. فالمنظمات مقتنعة بضرورة الصرف على الحاجات الإنسانية, إنما أحياناً نتناقش حول عناوين الصرف. مثلاً, إذا رفضت المنظمات تمويل المازوت للمدارس فسنضطر إلى أن نلجأ إلى الخزينة اللبنانية. هذا النوع من التمويل الذي يأتي تحت عنوان"flash appeal" يذهب كلياً إلى المنظمات الدولية, ولا ندخل في تفاصيله المالية كدولة. نحن نعرف فقط أين تذهب المساعدات, ونسهم في توجيهها.
■ كيف سيتحقق الجزء الثاني من الخطة في حال عدم معرفة تاريخ, أو كيفية صرف الـ672 مليون دولار؟
باشرنا التفاوض مع الجهات المانحة ونعمل على أساس تقدير لتوقعات هذه الجهات من خلال الطريقة المعتمدة معهم منذ عام 2020 بعد انفجار المرفأ. وتقضي هذه الطريقة برصد الأموال لقطاعات محدّدة, ثمّ تنفق بواسطة المنظمات الدولية.
■ هل تعتقد أن دور الدولة إشرافي فقط؟
لقد استعدنا بعضاً من دور الدولة خلافاً لما حصل في السابق, وخصوصاً إثر انفجار المرفأ حين انفردت المنظمات الدولية بكامل العملية. الآن, تقوم لجنة الطوارئ بتطبيق خطة الاستجابة من خلال تنسيق كامل عملية المساعدات والإشراف على عمل المنظمات الدولية. لا بل فوجئت هذه المنظمات بأن الدولة تقوم بدور التوجيه. وخطّ توزيع المساعدات المعتمد هو على النحو الآتي: يتم إيصال المساعدات إلى المحافظين, ثمّ البلديات, وصولاً إلى غرف العمليات المحلية. وهذا أمر لم يحدث بعد انفجار المرفأ, بل كان دور الدولة غائباً وأعطيت الجمعيات والهيئات الأهلية دوراً أكبر. أما الآن, حتى المساعدات العينية تصل عبر الدولة, ونحن نقوم بإعادة بناء الثقة بشكل تدريجي. ففي باريس, كان العنوان الأساسي دعم مؤسّسات الدولة, ولكن التمويل يحتاج إلى وقت, إنما الوضع في تحسن.
أفضل 6 طرق لإزالة شعر الوجه والحصول على بشرة ناعمة ومشرقة!
وفي هذه الأزمة, فضلاً عن عدم وجود الموارد المالية الكافية, لا موارد بشرية. في وزارة الشؤون ولجنة الإغاثة, لا يوجد عديد يكفي لتوزيع المساعدات والمتابعة مع النازحين على الأرض. وبالتالي, وجود المنظمات الدولية ضروري. الحرب بهذا الحجم تحوّلت إلى حالة طوارئ متعددة الجوانب, ولا يمكننا إدارة الملف وحدنا.
■ ما مخاطر الخضوع لشروط الواهب دائماً؟
الشروط ليست ضاغطة, والمنظمات متعاونة في الأمور الإنسانية. وما يهمّها هو عدم التمييز والهدر. وهذه أكثر الأمور مبدئية عند المنظمات. ولكن تصبح المساعدات مشروطة بالإصلاحات عندما ترتبط بالوزارات. والشرط الإضافي الدائم, أنّ التمويل يأتي عبر المنظمات الدولية, على أن تتولى هذه الأخيرة الإنفاق على الوزارات.
■ لدينا حاجة مستعجلة, فماذا نفعل في حال تأخّر التمويل؟
ليس هناك تصوّر واضح لتاريخ وصول التمويل. لكن بعد مؤتمر باريس, بدأت المنظمات تخطّط على أساس هذا التمويل, وستستخدم مواردها في انتظار وصول الأموال.
■ قلتم في السابق إنكم تطمحون إلى استبدال المساعدات العينية بالمساعدات النقدية, فهل هذا ممكن وما الهدف منه؟
توزيع النقد الكاش هو أفضل إدارياً وعملياتياً. رغم ذلك, هناك مدارس لا يمكن تفريغها. أين سيذهب الناس؟ في لبنان, لا يوجد 50 ألف منزل شاغر وفق التقديرات, كما أنه لا يمكن تأمين هذا العدد من البيوت الجاهزة مع بنيتها التحتية. لذا, الأفضل تأمين المال للعائلات النازحة. وهذا أفضل أيضاً على المستوى الغذائي. تقديم ثلاث وجبات يومياً, تكلف شهرياً نحو 100 دولار, لكن المشكلة تكمن في عملية التحضير والتوزيع التي تتطلب فريقاً لوجستياً ضخماً. وعلى مستوى التدفئة, يفترض أن النقد الكاش أفضل للعائلات النازحة. إنما عملية توزيع النقد تستوجب تسجيل النازحين في قاعدة معلومات واضحة بدأنا نعمل عليها مع البرنامج العالمي للغذاء ومجلس الوزراء. صحيح أن هناك قلقاً لدى العائلات من احتمال وجود مخاطر لهذا التسجيل من أن تطّلع عليه جهات خارجية, لكن في النهاية يجب أن نعرف الأعداد ضمن شروط معروفة مثل عدد الأطفال وعمل ربّ العائلة وسواها.
الاخبار